الحرم الإبراهيمي 16 عاما والجريمة مستمرة



الحرم الإبراهيمي 16 عاما والجريمة مستمرة
غزة – فضائية الأقصى
بعد ستة عشر عاماً ما زال صادق برقان يتكئ على عصاه محاولاً مقاومة الشلل النصفي الذي أصيب به أثناء تواجده في الحرم الإبراهيمي الشريف ذاك اليوم، ولم تغادر آثار رصاصات المجرم باروخ غولدشتاين مكانها في جسده ، بل حفرت معها جرحاً لا تمحوه اتفاقيات أو تفاهمات .
ولعل الكلمات لا تؤدي دورها في وصف المشهد ، فمجزرة الحرم لخّصت كل المعاني التي يحاول أن يصف الفلسطينيون بها احتلالاً رقد على أرضهم وكتم أنفاسهم، بل تعود الحكاية اليوم لتنسج فصولها من جديد بقرار عنصريٍ لاحتلال أكثر عنصرية، وهو ابتلاع الحرم ضمن الآثار الصهيونية .
سجود الشهادة
في ذكرى اليوم الدامي الذي وافق الخامس والعشرين من شهر شباط لعام 1994 تتشابك أطراف الصور لتشكّل المشهد كاملاً ابتداء بتكبيرة الإحرام مروراً بسجدة التلاوة وصولاً إلى نطق الشهادة وارتقاء الأرواح , وهذا صادق يعود بالذاكرة إلى اللحظة التي توجه بها قاصداً صلاة الفجر في الحرم كما اعتاد منذ عدة سنوات.
ويقول:" توجهت للصلاة في الحرم يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان وقابلت بعض الأصدقاء في المسجد ، ولكنني أحسست بحركة غير طبيعية لجنود الاحتلال في محيطه، وعندما بدأنا الصلاة سجدنا سجود التلاوة فإذا بصوت قنابل ورصاص ينهمر فوق رؤوسنا، ثم أدرت وجهي نحو مصدر النيران ورأيت المستوطن غولدشتاين يطلق النار على الساجدين ومعه نحو ثلاثة من جنود الاحتلال يطلقون النار تجاهنا".
ولكن تلك اللحظات القصيرة مرت كالدهر على مرتادي المسجد، فالمغتصب وجنود الاحتلال استغلوا لحظات السجود للشروع في قتلهم بكافة أنواع الرصاص والقنابل الصوتية والأخرى الحارقة والمتفجرة، حتى أضحى المكان ساحة من الدماء المتناثرة والأجساد التي تحاول جاهدة النطق بالشهادة قبل أن تفارق الحياة .
وخلال الصور المترامية في مخيلة صادق الذي كان شاباً في الثانية والعشرين حينها، تظهر تلك التي يقول إنها أصعبها، فالمغتصب رآه وهو يحاول النهوض من سجوده ليغيث المصابين، ثم شرع بإطلاق النار نحوه صارخاً "الموت للعرب" وأصابه ست مرات في مختلف أنحاء جسده،
ويضيف:" رأيته وهو يطلق النار علي ويملأه الحقد وكأنه يطلق النار على مسلحين من أمثاله، ولم يستجب لصرخات المصلين بل زاد في اعتدائه علينا".
وبالطبع فإن شهادات مواطني مدينة الخليل الذين تواجدوا في الحرم يوم المجزرة تدحض كل ادعاءات الاحتلال بأن المغتصب المتطرف شرع وحده بتنفيذ المذبحة وأنه يعاني من اضطرابات نفسية، فكل أصابع الاتهام تتجه نحو جنود الاحتلال الذين يتواجدون بشكل دائم في محيط الحرم، والذين شرعوا بدورهم في إطلاق النار على كل ما هو فلسطيني في الحرم ومحيطه محاولين إخفاء معالم المجزرة التي راح ضحيتها 29 شهيداً وأكثر من 200 جريح .
مع سبق الإصرار
طلال أبو سنينة الذي أصيب في ذراعه برصاصة متفجرة كان أحد المصلين الناجين من المجزرة أيضا ليروي منظرها المعتم لأجيال لاحقة، فيعود بالسنين إلى ذاك اليوم ويحاول تركيب المشهد من جديد، ويخرج بكلمات تغذيها انتهاكات الاحتلال للحرم حتى اليوم .
ويقول:" قبل يوم من المجزرة كنا متواجدين في ساحة الحرم، وكان المغتصب غولدشتاين متواجداً وقتها وقد حصلت مشادة كلامية بيننا، فهددنا إذا عدنا إلى الحرم مرة أخرى، ولكننا بالطبع لم نكترث له وتحديناه وعدنا لنصلي الفجر فيه، فوجدناه يقتحم المسجد ويخرج سلاحه ويطلق النار علينا".
وما زال طلال حتى اليوم يعاني من إصابته وكأنها تذكّره في كل لحظة ألم باحتلالٍ لا يراعي حرمة ولا يتوانى عن وأد أي فلسطيني أينما كان موقعه.
أما النائب عن كتلة حماس البرلمانية حاتم قفيشة الذي فقد عدداً من أقربائه وأصدقائه في المجزرة فيصف ذكراها بالجرح الملتوي في الجسد، ويتحدث بحرقة عن يومٍ فاصل في حياته لم يغادره يوماً وإنما كبر مع استمرار اعتداء الاحتلال بجنوده ومغتصبيه على الخليل وأهلها ومقدساتها.
ويوضح قفيشة الذي وصل المسجد محاولاً اللحاق بالركعة الأولى من صلاة الفجر أنه رأى المغتصب وجنود الاحتلال يتجهون نحو المسجد بأسلحتهم، الأمر الذي زرع الشك في قلبه بأنهم يخططون لأمر ما يضر الفلسطينيين بالطبع.
ويقول:" عندما دخلت الحرم فوجئت بالرصاص والقنابل تطلق على أجساد المصلين في سجودهم، فحاولت الاقتراب من المغتصب غولدشتاين ولكن أحد الجنود اعترضني ووضع سلاحه على جبيني، فقلت له إن شخصاً يقتل المصلين! فقال لي بلهجة عربية ركيكة: سأقتلك إن أقدمت على خطوة أخرى، وبعد لحظات هرب المغتصب أمام صرخات المصلين وغضبهم ودخلت المسجد لأخلي الجرحى فكان المشهد مؤلماً برؤية أحبة لي قد استشهدوا".
لم تتوقف

وفي ظل كل ذلك لم يكن أمام رواد الحرم الإبراهيمي إلا وقف المغتصب عند حده، فالثأر لدماء المصلين لحق الجريمة بعد لحظات عندما أجهز الشبان على المغتصب الذي بقي يطلق النار من سلاحه حتى إزهاق روحه، وعاد المواطنون ليخلوا الجرحى وجثث الشهداء من الحرم.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انتشر جنود الاحتلال في محيط الحرم محاولين إطلاق النار على كل فلسطيني، حتى أنهم لاحقوا من حاول إخلاء الجرحى وأطلقوا النار عليهم، وانتفضت الخليل معلنة الغضب الشعبي يوم الجمعة لتندلع مواجهات في كل أنحائها تنديداً بالمجزرة.
ويستذكر قفيشة قائلاً:" كنا نخلي الجرحى إلى المستشفيات القريبة ونتبرع بالدم لهم، ولكن الجنود لحقوا بنا إلى أبواب المستشفيات، وكان أحد المتبرعين بالدم في غرفة الانتظار فسمع إطلاقاً للنار خارج المبنى وعندما أطل برأسه قنصه أحد الجنود فسقط شهيداً في مكانه وما زال المستشفى يحتفظ بعينة دمه حتى الآن، أما الشاب عرفات البايض فكان ينتظر حتى يسمح له بالدخول ليتبرع بدمه فوصلته رصاصة اخترقت جسده وهو على كرسي الانتظار".
ولأن الاحتلال ينوي القضاء على الفلسطينيين متغذياً بعنصريته العمياء، لاحق جنازات الشهداء بالرصاص وقتل ستة من المشيّعين، فكان أحد المواطنين يهمّ لدفن قريب له حتى سقط شهيداً إلى جانبه برصاصة غادرة.
لن تنكسر

ولعل المجزرة هذه لم يهدف الاحتلال من خلالها إلى قتل الفلسطينيين فحسب، وإنما لصدّهم عن الحرم الإبراهيمي وترهيبهم من الوصول إليه، ولكن هيهات أن تتحقق هذه الأحلام الخبيثة في قلب من عاد ليصلي في الحرم رغم شلله.
فالمواطن صادق واحد من بين مئات الناجين من المجزرة الذين عادوا بعد شفائهم فوراً ليصلّوا في رحاب المسجد غير آبهين بتهديدات الاحتلال، وحتى عدم قدرته على السجود بسبب الشلل الذي أحدثته رصاصات المغتصب لم تمنعه من ارتياد المسجد بشكل أكبر من ذي قبل، ويعلق قائلاً:" هو أراد أن نبتعد عن المسجد ولكننا نرد عليه بالعودة إلى الحرم والصلاة فيه والمكوث فيه أطول فترة ممكنة".
وفي هذا السياق يؤكد الشاب محمد مجاهد الذي فقد والده شهيداً في المجزرة أن الصلاة في الحرم الإبراهيمي تشعره بأن أباه راضٍ عنه لأنه لم يحقق أحلام المغتصبين بترك الحرم الشريف، ويتابع:" كنت في السادسة من عمري حين وصلنا نبأ استشهاد والدي عند الفجر، ولكنني لم أفهم وقتها مخططات الاحتلال، وحين كبرت عرفت أنه يريد كسر إرادتنا ولن تنكسر بإذن الله".
مجزرة ثانية

ولم يكتف الاحتلال بكل ذلك، بل عاد في الذكرى السادسة عشرة للمجزرة بارتكاب أخرى جديدة مقرراً ضم الحرم لآثاره الصهيونية التي يزعم وجودها، وما هي إلا فلسطينية سرقها محاولاً صنع تاريخ لم تشهده الأرض يوماً.
وفي هذا الإطار يقول النائب قفيشة:" بالأمس ارتكب الصهاينة مجزرة داخل الحرم بحق المصلين، واليوم يرتكب مجزرة بحق الحرم نفسه، وما واجبنا إلا الدفاع عنه وحمايته والبقاء في رحابه".
ولم يسلم الحرم الشريف من اعتداءات الاحتلال طيلة سنوات احتلاله لفلسطين، حيث يعمد إلى محاصرته بالجنود وعتادهم ويمنع المصلين من دخوله وفق مزاج جيشه، كما يجبرهم على استصدار تصريحات خاصة لدخوله وفق شروط يضعها لتقليص عدد المصلين، ثم خرج بقرار قبل عدة أشهر يمنع الآذان من الصدوح في أنحاء مدينة الخليل بحجة أنه يزعج المغتصبين الذين يستولون على منازل الفلسطينيين في البلدة القديمة، وفي أحيان كثيرة يغلق الحرم أمام الفلسطينيين ليترك المجال لمغتصبيه بدخوله وأداء شعائر دينية لا يعلم أحدٌ سببها، فالمكان إسلامي بحتٌ لا تشوبه هياكل مزعومة ولا كنسٌ وهمية .

0 التعليقات:

إرسال تعليق